فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام، والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له، وأجابوا إلى المسير تحت رايته.
فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه، ومعنى الفصل القطع، يقال: قول فصل، إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن العظم فصلًا وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالًا، ويقال للفطام فصال، لأنه يقطع عن الرضاع، وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، ومنه قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94].
قال صاحب الكشاف قوله: فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه، ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة، يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة». اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن الجوزي:

وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال.
أحدها: سبعون ألفًا، قاله ابن عباس.
والثاني: ثمانون ألفًا، قاله عكرمة والسدي.
والثالث: مائة ألف، قاله مقاتل. اهـ.

.قال الفخر:

روي أن طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناءً لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفًا. اهـ.
وقال الفخر:
اختلفوا في أن هذا القائل من كان؛ فقال الأكثرون: إنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لابد وأن يكون مسندًا إلى مذكور سابق، والمذكور السابق هو طالوت، ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت، وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبيًا ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلابد من وحي أتاه عن ربه، وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبيًا.
والقول الثاني: أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية، والتقدير: فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وضمير {قال} راجع إلى {طالوت}، ولا يصح رجوعه إلى نبيئهم لأنه لم يخرج معهم، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم، مع أنه لم يكن نبيئًا، يوحى إليه: إما إستنادًا لإخبار تلقاه من صمويل، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك، فأخبر عن اجتهاده، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها. اهـ.

.قال الفخر:

في حكمة هذا الابتلاء وجهان الأول: قال القاضي: كان مشهورًا من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال: {فَإِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ}.
الثاني: أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد. اهـ.

.قال القرطبي:

ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء عُلِم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فرُوي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رُخِّص للمطيعين في الغَرْفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليَكْسِروا نزاع النفس في هذه الحال.
وبين أن الغَرْفة كافَّةٌ ضررَ العطش عند الحَزَمة الصابرين على شَظَف العيْش الذين هَمُّهم في غير الرفاهية، كما قال عروة:
وأحْسُوا قَرَاح الماءِ والماءُ باردُ

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: «حسْب المرء لُقيْمات يُقِمن صلبه» وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني: هذه الآية مثلٌ ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهِد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.
قلت: ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

تسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل، وغضبه على العاصي، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل.
والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد، وقوي العهد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحملهم المتاعب وعزيمة معاكستهم نفوسهم فقال لهم إنكم ستمرون على نهر، وهو نهر الأردن، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشًا وشهوة، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم: لأن المحارب إذا شرب ماء كثيرًا بعد التعب، انحلت عراه ومال إلى الراحة، وأثقله الماء.
والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم:
فلما شَارَفَتْ أَعلام طي ** وطيٌّ في المَغَار وفي الشعاب

سَقَيْنَاهُنَّ من سهل الأداوى ** فمصطبح على عَجَل وآبي

يريد أن الذي مارس الحرب مرارًا لم يشرب؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد، فإذا كان حاجزًا كان أخفَّ له وأسرعَ، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه، ولأجل هذا رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة. اهـ.

.قال الفخر:

في النهر أقوال أحدها: وهو قول قتادة والربيع، أنه نهر بين الأردن وفلسطين والثاني: وهو قول ابن عباس والسدي: أنه نهر فلسطين، قال القاضي: والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين.
القول الثالث: وهو الذي رواه صاحب الكشاف: أن الوقت كان قيظًا فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرًا فقال: إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر. اهـ.
وقال الفخر:
قوله: {مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء، وثبت أن الله تعالى لا يثبت، ولا يعاقب على علمه، إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس، وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء، وفيه لغتان بلا يبلو، وابتلى يبتلي، قال الشاعر:
ولقد بلوتك وابتليت خليفتي ** ولقد كفاك مودتي بتأدب

فجاء باللغتين. اهـ.

.قال القرطبي:

استدل من قال إن طالوت كان نبيًا بقوله: {إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم.
ومن قال لم يكن نبيًا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوتُ قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميّز الصادق من الكاذب. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {فَلَيْسَ مِنّي} كالزجر، يعني ليس من أهل ديني وطاعتي، ونظيره قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} ثم قال قبل هذا: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} وأيضًا نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا» أي ليس على ديننا ومذهبنا والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فمن شرب منه فليس مني} أي: ليس من أتباعي في هذه الحرب، ولا أشياعي، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو: «من غشنا فليس منا»، «ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود»، أو: ليس بمتصل بي ومتحد معي، من قولهم: فلان مني كأنه بعضه، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورًا ** فإني لست منك ولست مني

اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى قول طالوت {ليس مني} يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش، فلا يكمل الجهاد معه، والظاهر الأول لقوله: {ومن لم يطعَمْه فإنه مني} لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله: {فمن شرب منه فليس مني} غنية عن قوله: ومن لم يطعمه فإنه مني؛ لأنه إذا كان الشارب مبعدًا من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يقال: طعِمت الشيء أي ذقته.
وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئًا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عِبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ومن لم يطعمه فإنه مني} أي: من لم يذقه، وطعم كل شيء ذوقه، ومنه التطعم، يقال: تطعمت منه أي: ذقته، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول، تطعم منه يسهل أكله، قال ابن الأنباري: العرب تقول: أطعمتك الماء تريد أذقتك، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر:
فإن شئتُ حرمت النساء عليكم ** وإن شئتُ لم أطعم نقاخًا ولا بردًا

النقاخ: العذب، والبرد: النوم، ويقال: ما ذقت غماضًا.
وفي حديث أبي ذر في ماء زمزم: «طعام طعم» وفي الحديث: «ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين: التمر والماء» والطعم يقع على الطعام والشراب، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم، لأن الطعم ينطلق على الذوق، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب، إذ يحصل بإلقائه في الفم، وإن لم يشربه، نوع راحة.
وفي قوله: {ومن لم يطعمه} دلالة على أن الماء طعام، وقد تقدّم أيضًا ما يدل على ذلك. اهـ.
وقال الخليل بن أحمد:
الطَّعامُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُؤْكَلُ، وكذلك الشّراب لكلّ ما يُشْرَبُ.
والعالي في كلامِ العَرَب: أنّ الطّعام هو البُرُّ خاصّة. ويقال: اسم له وللخُبْزِ المخبوز، ثم يُسَمَّى بالطعام ما قرب منه، وصار في حدّه، وكلُّ ما يَسُدُّ جوعًا فهو طَعام. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتاعًا لكُمْ}. فسمَّى الصّيدَ طَعامًا، لأنّه يَسُدُّ الجوعَ، ويُجْمَعُ: أطْعِمَة وأَطْعِمات.
ورجل طاعِمٌ: حسن الحال في المَطْعَم. قال:
فَاقْعُدْ فإنّكَ أنْتَ الطّاعم الكاسي

وطَعِمَ يَطْعَمُ طعامًا، هكذا قياسُه.
وقول العرب: مُرُّ الطَّعْمِ وحُلْو الطَّعْمِ معناه الذّوق، لأنّكَ تقول: اطْعَمْهُ، أي: ذُقْهُ، ولا تُريد به امضَغْه كما يُمْضَغ الخبز، وهكذا في القرآن: {ومَنْ لم يَطْعَمْهُ فإِنّه منّي}.
فجعل ذوق الشّراب طَعْمًا. نهاهم أن يأخذوا منه إلا غَرْفَة وكان فيها ريُّ الرّجُلِ وريُّ دابَّتِهِ. اهـ.